بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الثالثة
كتاب أدلة تحريم الأغاني والملاهي والرد على من أباحها - لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله
1- لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد بقلم أبي تراب الظاهري تحت عنوان: [الكتاب والسنة لم يحرما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها] فذهب إلى القول بحل الغناء وآلات الملاهي مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك تبعاً لإمامه أبي محمد بن حزم الظاهري، فتعجبت على قولهم " بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي، بل أنها موضوعة " ، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان .
2- لقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير علم ، وأن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه ليفسد عليهم دينهم [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ، [وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ] .
3- فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وحذراً من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك، أذكر لك ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه ابن حزم من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والأحاديث والآثار وكلام أهل العلم في تحريم الغناء وآلات الملاهي، حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وبالله نستعين .
4- قال أبو تراب: (وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح، لم يرد في الشريعة نص ثابت في تحريمه البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين وهما الكتاب والسنة، وما سواهما فهو شغب وباطل مردود ، وقال ابن حزم: بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير، حلال كله، من كسر شيئاً من ذلك ضمنه).
5- أقول: لقد أخطآ في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي، وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل السلف من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم، وخطره جسيم ، ولقد ذهب الجمهور إلى تحريم الأغاني وآلات الملاهي ، وأوجبوا كسرها وقالوا: لا ضمان على متلفها، وقالوا: إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك، حرم بالإجماع، إلا ما يستثنى من ذلك من دق النساء الدف في العرس ونحوه، ، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب وصدها عن القرآن الكريم ، وأنها من مكايد الشيطان، ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفه والفسق، وقالوا: لا تُقْبل شهادته، وذلك لما ينشأ عنها من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، وشدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنى وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، وما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال .
6- وإليك بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن وأحاديث الرسول ﷺ : قال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ، قال ابن مسعود : " هو والله الغناء " وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: " في الغناء والمزامير " ، وقال أكثر المفسرين : " على أن لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء " ، فالآية ذمت أرباب الأغاني والملاهي ، وأن اشتراءهم للهو الحديث، واختيارهم له من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه، فالله مدح أهل القرآن في أول السورة، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، ثم ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال فهو مذموم، يجب أن يحذر ويبتعد عنه .
7- قال القرطبي في الآية : " الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون ،وفيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام " ، فكلامه حسن، وبه تجتمع الأدلة ، ومن ذلك عن عائشة - قالت: دخل علي النبي ﷺ وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر t، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي ﷺ، فأقبل عليه رسول الله ﷺ فقال: «دعهما» فلما غفل غمزتهما فخرجتا فقال رسول الله ﷺ: «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد» ، فيه كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان، ولم ينكر عليه النبي ﷺ تلك التسمية، ولم يقل له: إن الغناء والدف لا حرج فيهما وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد، لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا فيما يتعلق بالشجاعة والحرب، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، ومن تأمل هذا الحديث علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه حسماً لمادة الفساد، وحفظاً للقلوب عما يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه، وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقاً، فدعوى باطلة، لما تقدم بيانه، والأدلة تدل على بطلان دعواه.
8- عن عامر بن سعد البجلي، أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وهم في عرس وعندهم غناء، فقلت لهم: (هذا وأنتم أصحاب رسول الله ﷺ ، فقالوا: إنه رُخِّص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح» فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقاً، وإنما يدل على جوازه في العرس، لإعلان النكاح، وفيه دليل على منع الغناء، لا على جوازه ، فإنكار عامر بن سعد على هؤلاء الصحابة الغناء وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء والمنع منه أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين وعرفوه عن النبي ﷺ.
9- قد بينا لك كشف شبهة أبي تراب في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس، وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب، وإمامه ابن حزم في النهي عن الأغاني والمنع منها لا على جوازها .
10- قال ابن القيم ما نصه: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قَلَّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، ورقية اللواط والزنى، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً وغروراً، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً )..ولقد أحسن القائل:
تُلي الكتاب فأطرقوا لا خيفةً
وأتى الغناء، فكالحميرِ تناهقوا دفٌّ ومزمارٌ ونَغمَةُ شادنٍ |
لكنه إطراقُ ساهٍ لاهي
والله ما رقصوا لأجلِ الله فمتى رأيتَ عبادةً بملاهـي؟ |
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض،وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة).
11- شبهة يجب أن تكشف: زعم أبو تراب ، تبعاً لابن حزم، أن قوله سبحانه: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا] دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي، لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك، والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوهٍ ثلاثة:
أ- أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول ﷺ ، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.
ب- أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها؛ [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث، ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] وعليه تكون «اللام» في قوله: [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ] لام العاقبة فيكون المعنى أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزواً، والإعراض عن آيات الله، استكباراً واحتقاراً، وإن لم يشعر بذلك، ولم يقصده ، أو لام التعليل، أي تعليل الأمر القدري يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث ، وهذا هو الواقع ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف، واستحسنها يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله، وقد دلت الشريعة على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها، حذراً من الوقوع في غاياتها .
ج- أنه لو كان الذم مختصاً بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لهو الحديث فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئاً يقصد به الضلال أو الإضلال حتى ولو كان ذلك الشيء محبوباً إلى الله ، كمن اشترى مصحفاً يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل.
12- فعرفت من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمهما، وأنها وسيلة للضلال والإضلال ، وإن لم يشعر مشتروها بذلك، وهذا هو الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالإتباع.
13- وقد تكلم ابن القيم على الآية المتقدمة [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهوَ الحَدِيثِ] بكلام حسن يؤيد ما تقدم وهذا نصه: (أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء ، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة ، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى، ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، قال ابن عباس في الآية : "هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلاً ونهاراً " ، وأما غناء القينات فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي ﷺ قال: «من استمع إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة» ، والآنك الرصاص المذاب، قال النبي ﷺ قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام»، وفي مثل هذا نزلت الآية ، وللحديث شواهد ومتابعات ، ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء ، وليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول ﷺ علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ، فأهل الغناء ومستمعوه، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبراً، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقراً، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئاً استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفراً، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم يوضحه أنك لا تجد أحداً عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء ، والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: [وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ) انتهى كلامه .
14- ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني وآلات الملاهي قوله تعالى: [وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا] ، [وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] ، وقد فُسِّر الصوت والزور: بالغناء وآلات الملاهي، ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من رحم الله .
15- وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة، منها عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنى والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال آلات الملاهي كالطنبور والعود والطبل وغير ذلك ، لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء، صار الإثم أكبر، والفساد أعظم، وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقَّوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها، وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تقليداً له بأنه منقطع بين البخاري وبين شيخه هشام بن عمار، لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقاً، وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤه فيه، لأن هشاماً من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازماً به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده، ، وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلاً، عن هشام بن عمار.. إلخ.. بأسانيد صحيحة، قال ابن حجر " والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع " ، وقال أيضاً : " وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحاً إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولاً، إلى من علق عنه بشرط الصحة، أزال الإشكال " ، وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب ، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.
16- قال ابن القيم ما نصه: (هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أ- أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام.
ب- أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنده أنه حدث به، وهذا كثيراً ما يكون لكثرة ما رواه عنه، عن ذلك الشيخ وشهرته، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
ج- أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
د- أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض .
هـ أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث صحيح، متصل عند غيره .
17- وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جداً وإليك جملة من كلامهم ، عن ابن مسعود أنه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع»، قال ابن القيم لما ذكر هذا الأثر ما نصه: «فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ فاعلم أن للغناء خواص، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه، كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويحركها إلى كل قبيح ، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجها على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تُفْسَخ، وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل ، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفرح به شيطانه ، فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب برجليه، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين " .
18- وقال بعض العارفين: «السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم» ، وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش ، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقا، فما للنفاق حقيقة ، وصاحب الغناء بين أمرين:إما أن يتهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً .
19- قال الضحاك: " الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب " ، قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: (وهو من أئمة المالكية) في خطبة كتابه في تحريم السماع: " وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً ثم ازداد الأمر إدباراً، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء وحملة الدين: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] " ، قلت مراده بالطائفة التي أحبت الغناء واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله جماعة من الصوفية أحدثوا بدعة سماع الغناء وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات، فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك وصاحوا بهم من كل جانب، وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة بدعة منكرة .
20- سئل مالك عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: «إنما يفعله عندنا الفساق»، وأما أبو حنيفة " فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب " وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافاً أيضاً بين أهل البصرة في المنع منه .
21- ومن هنا يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان:
الطائفة الأولى: اتخذته ديناً وعبادة وهم شر الطائفتين وأشدهما إثماً وخطراً لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله وجعلوا الغناء والملاهي اللذين هما أداة الفسق والعصيان ديناً يتقربون به إلى الله .
الطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهواً ولعباً وترويحاً عن النفوس وتسلياً بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها وهم مخطئون في ذلك وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال، ولكنهم أخف من الطائفة الأولى لكونهم لم يتخذوا ذلك ديناً وعبادة وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا وإنكار هذا وهذا .
22- مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: " إن السماع فسق والتلذذ به كفر " ، وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه: (وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد ) .
23- قال الإمام أحمد : " الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني " ، " ولو أن رجلاً عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقاً " ، قال الشافعي : «وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تُرَد شهادته، وأغلظ القول فيه وقال: هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثاً» ، قال القاضي أبو الطيب: «وإنما جعل صاحبها سفيهاً لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهاً فاسقاً» ، «وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق » انتهى كلام ابن القيم .
24- ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه: « فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه » ، «قال أبو الفرج: لا تُقبَل شهادة المغني والرقاص، قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة لا يجوز، وقد ادَّعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك».
25- وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في مسألة الأغاني والمعازف ، ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار وكلام أهل العلم لطال بنا الكلام وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق ، وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه ، ونصيحتي لأبي تراب وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه ، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة والتمادي في الباطل رذيلة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
مسابقة الأسرة الكبرى السابعة ، تلخيص مادة علمية ، تلخيص الطالب / عبدالله أبوبكر باوارث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق